امدرمان انترنت
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
امدرمان انترنت

مركز ثقافي وسياسي وإعلامي سوداني


أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

الفاضل إحيمر:شعب خيِّر لا يستاهل إلا الخير 1/4

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

كتابات



شعب خيِّر لا يستاهل إلا الخير 1/4


الفاضل إحيمر/ أوتاوا

IHAIMIR@aol.com

قضت مشيئة الله و تصاريف زمنٍ قاسي و ظروف قاهرة أن أبتعد عن السودان لفترة تقترب حثيثاً من العقدين من الزمان ظللت أكابد طوالهما شوقاً عارماً لبلد يبقى عزيزاً عليَّ مهما جار و يبقى اهله و إن ضنوا عليَّ كراماً. كسائر المغتربين و أهل الشتات أتلهف
كل عائدٍ من السودان لأشتم فيه رائحة الأهل و البلد، و يكون أول سؤال أبادره به، و يفعل ذات الشيئ غيري، بعد "حمداً لله على سلامة وصولك" و "كيف حالك"، "كيف وجدت البلد؟" تتفاوت الإجابات و التعليقات عليها و التحليلات إلا أنها جميعاً تكاد أن تتفق في أمرين: أن الناس يعانون و أنهم قد تبدلوا. ذلك الجانب من الإجابة الذي يعني الكثير الخطير و الذي ليس هذا مجال الخوض فيه أو موضوع مقالي هذا هو ما دفعني لكتابة سلسلة مقالتي هذه و التي اخترت عنواناً لها "شعب خيِّر لا يستاهل إلا الخير" و هي، دون أن تتطلب تعليقاً مني أو تحتاج إلى تفسير، توضح كيف أننا كنا و يجب أن نسعى لأن نكون دائماً شعباً خيِّراً طيباً كريماً و نبيلاً لا يستاهل و لا يستحق إلا الخير و بغيرِ ذلك يجب أن لا يرضى أو يقبل.
ذات مرة من المرات أخترت للسـفر من مدينة كسلا، مسقط رأسي، إلى مدينة الخرطوم القطار و كان ذلك في وقتٍ كانت فيه هنالك قطارات و كان السفر بها متعة. علاوة على ولعي بالسفر بالقطار، كان الوقت خريفاً و كان الخريف في ذلك الوقت مما يشتد و يكثر فيه هطول الأمطار و يصدق فيه قول "بجي الخريف و اللواري بتقيف". كانت الرحلة من كسلا إلى الخرطوم تستغرق قرابة اليومين مما يعني مبيت ليلةٍ بالقطار و كان الناس يعدون من الزاد و القرى ما يكفي لتلك الرحلة أو يزيد قليلاً فكثيراً ما شارك الناس رفاق رحلتهم زادهم و كثيراً ما منحوا منه من لا قوت و لا زاد لهم في محطاتٍ و "لامحطاتٍ" متناثرة على جانبي خط سير القطار.
غادرنا مدينة كسلا و الجو ملبد بالغيوم و لم نكد نبتعد عنها أميالاً حتى أصابنا طلٌ من السماء إستحال إلى وابلٍ و القطار يحث الخطى متجهاً جنوباً قبل أن ينطلق نحو الشمال. سارت الأمور من شديد إلى أشدّ، و لا أقول من سيئ إلى أسوأ فالمطر مهما كان رحمة، إلى أن بلغنا محطة "مارنجان" و التي كان بها محلج للأقطان، على ما أذكر. هنالك وقف القطار "دت" و علمنا أن الأمطار قد جرفت القضبان في موقعٍ ما وأن معالجة ذلك العطب قد تستغرق ساعات أو أياماً.
مضى يوم كامل و كاد الثاني أن يتبعه و نحن بتلك المحطة و نفد من معظم الناس ما كان معهم من زاد و من بعضهم ما كان معه من نقود و مع برودة الجو ازدادت وطأة الجوع.
في الكثير من محطات القطارات الصغيرة بالسودان تشكل القطارات ليس وسيلة تواصل فقط بل وسيلة ترفيه لساكني تلك المحطات فيستقبلون ما تسمح به ظروفهم من قطارات رائحة و غادية علهم يرون فيها قريباً أو صديقاً او يجود عليهم عابر بصحيفة فرغ من قراءتها أو يسمعون خبراً طازجاً لم يزودهم به المذياع أو يتسلون برؤية وجوه جديدة بعضها مليح و مريح. في ذالك اليوم استقبل الناس قطارنا كعادتهم و لما نال كل منهم وطره منه عادوا إلى منازلهم ليفيقوا في اليوم الثاني و يجدوا أن ذات القطار لا يزال رابطاً في جوارهم و أنه ظلَّ هناك حتى مغيب الشمس و ما بعده.
أحسَّ أولئك الطيبون بأن زاد المسافرين قد نفد و أدركوا ذلك من بكاء الأطفال و نظرات الأمهات القلقة و تحركات الآباء الوجلة. لم يفكروا في أن يستغلوا الظرف في أن يتحولوا جميعاً إلى باعة أو يرفع من كان بائعاً أصلاً أسعار ما لديه أو يتخلص من بضاعة و سلعاً مزجاة فاسدة بل أتفقوا على أن يذهب كلٌ منهم إلى بيته و يحضر ما لديه. لم يمض و قت طويل حتى رأى المسافرون جماعات من أهل تلك المحطة الطيبة المباركة يتجهون نحو القطار و كل منهم يحمل "صينية" بها أفضل ما استطاعه صفوها على امتداد القطار ومضوا فى سماحة يدعون الركاب إليها. لم يقف الأمر عند ذلك بل طلب بعض منهم منا أن نتبعه ليحضر المزيد و قادنا من تبعته مع مسافر آخر إلى بيت كان قاطنوه عزاباً أو كان "ميزاً" و رأيت هنالك رجالاً رجالاً قد تشمروا و كان منهم من "يعوس" و منهم من يعد "عصيدة" أو يطبخ و توالى إحضار الصواني إلى أن تأكد أولئك الأفاضل من أن كل من بالقطار قد شبع و ارتوى. بعد وجبة لم أذق أحلى و لا أشهى منها جاء الشاي ثم القهوة و لم ينس أولئك الأماجد أولو البصائر الرضع و الأطفال فقد أحضروا لهم من اللبن ما كفى و فاض.
كان الوقت ليلاً و لم يكن أولئك الأخيار يستبينون وجوهنا، لم يسألونا عن أسمائنا أو عناويننا أو يعطوننا أسماءهم و عناوينهم، لم يستفسروا عن مناصبنا و لم يطلبوا ارقام هواتفنا أو كروتنا للزيارة و لم يكن يهمهم في شيئ حسبنا أو نسبنا أو اصلنا و فصلنا فقد اطعمونا و سقونا لوجه الله و لم يريدوا منا جزاءا أو شكورا. فعلوا كل ذلك و وجوههم السمحة تفيض سعادة، تبرق رضاً وتنضح طيبة و بشرى.
في ساعةٍ مبكرةٍ من صباح اليوم التالي غادر القطار "مارنجان" و بإستثناء العاملين بالمحطة لم يكن هنالك أحدٌ و لعل الجميع كانو منشغلين بإعداد الشاي أو الإفطار لمن عدوهم ضيوفاً كراماً لهم. و أنا أذكر بالخير أولئك النفر الكريم و أدعو بالخير للأحياء منهم و الأموات أقول لنفسي و للذين حولي، "إن أهلنا شعب خيِّر و لا يستاهل إلا كل الخير."
و نواصل

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

مواضيع مماثلة

-

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى